الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
المال هو القيمة الوسيطة بين حاجات الإنسان:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس التاسع والثمانين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الخامسة والسبعين بعد المئتين، وهي قوله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ الإنسان في بدايته سَلَكَ إلى تأمين حاجاته مبدأ المُقايضة، يُعطي قمحاً ويأخذ لحماً، ولكن مبدأ المُقايضة لا يصلح، ولا يمكن أن يستمر عليه الإنسان، فلابد من قيمةٍ مطلقةٍ وسيطةٍ بين حاجات الإنسان، كان المال هذه القيمة الوسيطة بين حاجات الإنسان.
أي أنا أعالج مريضاً أتقاضى شيئاً، أُعلِّم طالباً أتقاضى شيئاً، أريد أن أشتري ثوباً أدفع شيئاً، فهذا الشيء الذي يُعبِّر عن جهدي وعن جهد الآخرين هذه القيمة المطلقة هي المال، سواء أكان مالاً ذهبياً، أم فضياً، أم إيصالاً لتغطيةٍ مُوْدَعةٍ عند مُصْدِر هذا الإيصال؛ العملة الورقية، على كل دون أن ندخل في تفاصيل فلسفة المال، وكيفية نشوء مفهوم المال، هذا المال الذي بين أيدينا تعبيرٌ عن جُهدٍ بشري، فمَن بذل جهداً كبيراً ينبغي أن يتقاضى مالاً كثيراً، ومَن بذل جهداً قليلاً ينبغي أن يتقاضى مالاً قليلاً، ومَن أراد أن يشتري حاجةً ثمينةً ينبغي أن يدفع مالاً كثيراً يُعبُّر عن جهدٍ كبير بذله.
المال هو قيمة الجُهد البشري:
على كلّ هذا الورق الذي بين أيدينا هو المال، قيمة الجُهد البشري، رمز الجهد البشري، وهو مَرِن، قدم للإنسان حاجة على زواجه، قدِّم له ثُريا، لو قدمت ثمنها قد يشتري بثمنها عشرات الحاجات، لأن هذه قيمة مطلقة، على كل أخطر شيءٍ في الحياة المال والمرأة، لأن النفس متعلقةٌ بهما أشدَّ التعلُّق، قال تعالى:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾
رُكِّبَ في أصل الإنسان، في أصل جِبِلَّة الإنسان حُبّ المرأة وحبّ المال، محور الدرس عن المال، المال كما قال بعضهم مادة الشهوات، لا تستطيع أن تفعل شيئاً من دون مال، لا تستطيع أن تشتري طعاماً تأكله من دون مال، لا تستطيع أن تسكن في بيتٍ مريح من دون مال، لا تستطيع أن تركب مركبةً تنقلك إلى أهدافك من دون مال، لا تستطيع أن تُهيمِن على الناس من دون مال، فالمال له دورٌ خطير في حياة الإنسان، بل إن الله جعله قِوام الحياة.
إنسان له دخل يشتري منزلاً صغيراً، يخطب فتاة، يتزوج، يُؤسس أسرة، له كيان، من أين بدأ هذا الكيان؟ من دخلٍ ثابت، استطاع أن يخطب من خلاله امرأةً، وأن يشتري منزلاً، وأن يُنفق عليها، لأن للمال دوراً خطيراً في حياة الإنسان فلابد من تنظيم علاقته به.
هناك طريقتان لكسب المال إما أن تلد الأعمال المال وإما أن يلد المالُ المال:
أيها الإخوة الكرام؛ كلامٌ دقيق، هناك طريقتان لكسب المال؛ إما أن تَلِد الأعمال المال، وإما أن يَلِد المالُ المال، إذا وَلَدَت الأعمال المال هذا الذي أراده الله عزَّ وجل، وهذا الذي شَرَّعه، وهذا الذي يجعل المال دُولةً بين الناس جميعاً، ما الذي يجعل المال دُولةً بين الناس جميعاً أي متداولاً بين الناس جميعاً؟ حينما تلد الأعمال المال، قد لا أقف عند دقائق هذه الآية في هذا الدرس، لكن لابد من تمهيدٍ دقيقٍ جداً لِموضوع آيات الربا.
أنت إن فتحت محلاً تجارياً، تحتاج إلى موظف يُعينك على فتح المحل صباحاً ويبقى فيه طوال الوقت، هذا الموظف لابد له من مرتَّب، هذا المُرَتَّب يتقاضاه من هذه الشركة، أنت بحاجة إلى محاسب، بحاجة إلى مستودع، بحاجة إلى دفاتر فواتير، بحاجة إلى صاحب مطبعة، دون أن تشعر تُوَظّف عشرات بل مئات الجهات كوظيفة ليست ثابتة، أما حينما تشتري حاجة للمحل، حينما تستأجر مستودعاً تحتاج إلى مَن يُقيم في المستودع، تحتاج إلى مَن يُنظِّم لك هذا المستودع، فالأعمال إذا وَلَدت المال، هذه الكتلة النقدية التي بأيدي صاحب هذا المشروع لابد من أن تتوزَّع بين أُناسٍ كثيرين، وكل الشركات المصاريف قد تصل إلى الثلث أحياناً، أي ثلث رأس المال وزِّع بين الناس.
فالله عزَّ وجل حينما شرَّع لنا هذا الشرع العظيم أراد من هذا المال أن يكون متداولاً بين جميع الخَلْق، الوضع الصحي، الوضع الطيِّب المريح، العدل، الوضع الرحيم الحكيم أن يكون المالُ مُتَداولاً بين جميع الخلق، أما الوضع المَرَضيّ أن يكون المال متداولاً بين الأغنياء فقط، قال تعالى:
﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)﴾
متى يكون المال متداولاً بين الأغنياء فقط؟ حينما يلدُ المال المال، الأعمال إذا وَلَدت المال يُوَزَّع بين أناسٍ كثيرين، أما إذا ولد المال المال، أي أنت وأنتَ في البيت مرتاحاً لا تستأجر محلاً، ولا تتحمل مسؤولية، ولا تدفع ضريبة، ولا تستخدم أناساً، ولا تُشَغِّل -إن صح التعبير-أصحاب مِهَن وحِرَف، أنت حينما تضع هذا المال في مؤسسة ربوية وتتقاضى عليه أرباحاً، وأنت في البيت مرتاحاً لا تقدم للأمة شيئاً، بل تأخذ مالاً من مالِك، فهذه العملية من شأنها أن تُجَمِّع الأموال في أيدٍ قليلة، وأن تُحرَم منها الكثرة الكثيرة، عندئذٍ يكون التفاوت الطبقي الذي هو وراء ثورات العالم، واحد يملك مليوناً، ومليون لا يملكون واحداً، إنسان يقيم عقد قِران في فندق يكلفه خمسة وثمانين مليوناً، وخمسة وثمانون ألف شاب لا يجدون ليرةً واحدة يتزوَّجون بها.
حينما تلد الأموال المال تتجمع الأموال في أيدٍ قليلة وتحرم منها الأيدي الكثيرة:
حينما تلد الأموال المال تتجمع الأموال في أيدٍ قليلة وتُحرم منها الكثرة الكثيرة، وهذا التفاوت الكبير بين شخصٍ وشخص وراء كل الفسادٍ الأخلاقي والفساد الاجتماعي، بل وراء العُنف، بل وراء ما يسمى الآن بالإرهاب، إنسان يائس لا يستطيع أن يفعل شيئاً، لهذا المعصية أيها الإخوة تتعاظم كلما اتسعت رقعة مضارِّها، فالذي يشرب الخمرة مثلاً يؤذي نفسه، أما الذي يزني يؤذي نفسه ويؤذي امرأةً معه، أما الذي يُرابي يؤذي مجتمعاً بأكمله، لأن المال قِوام الحياة، فإذا ملكته أيدٍ قليلة وحُرمت منه الكثرة الكثيرة صار هناك اختلال، صار خلل خطير في الحياة.
فلذلك الإنسان جاء في الحياة الدنيا من أجل عملٍ صالح، فحينما يأخذ ويعطي، بالمناسبة الأنبياء أعطوا كل شيء ولم يأخذوا شيئاً، يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، يا من قدست الوجود كله ورعيت قضية الإنسان، يا مَن زكيت سيادة العقل ونهنهت غريزة القطيع، يا مَن هيَّأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع فعشت واحداً بين الجميع، جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ.
المرابي أخذ ولم يعطِ، ما فعل شيئاً، لو معه ألف مليون هو عالة على المجتمع، النجَّار قدَّم باباً، المُدرّس علَّم طالباً، الطبيب عالج مريضاً، المحامي أخذ حقاً، التاجر قدَّم سلعةً إلى مكانٍ مناسب ورَبِح ربحاً مناسباً، المُزارع قدَّم محصولاً، لا يوجد إنسان عمل عملاً إلا قدّم شيئاً، ولو أنه ربح.
هناك نقطة دقيقة جداً، إنسان استصلح أرضاً وزرعها تفاحاً مثلاً، هو يقصد الربح، ولكن ماذا فعل هو؟ هو قدم كمية تفاح كبيرة في موسم ساهمت بخفض أسعاره، وساهمت بإطعام هؤلاء الجياع.
التاجر استورد بضاعةً وباعها، والقصد هو الربح، لكن ماذا فعل؟ جعل بضاعةً أساسيةً بين أيدي الناس بسعرٍ معقول، إذاً كل إنسان يعمل عرف أو لم يعرف، شعر أو لم يشعر يقدم خدمةً للمجتمع، لذلك سيدنا عمر كان يقول: "إني أرى الرجل ليس له عمل يسقط من عيني" .
﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾
نحن في الحياة الدنيا ينبغي أن نعمل، من جهة أننا بهذا العمل تُكشف خصائصنا والكمالات التي أودعها الله فينا، أو تُكشف نقائصنا والانحرافات التي كسبناها بأيدينا، فالإنسان من دون عمل لا يُكشف.
الله عزَّ وجل قهر الإنسان بالعمل:
الله عزَّ وجل قهرنا بالعمل، كيف؟ كل واحد منا يُتقن حاجة واحدة وهو محتاجٌ لألف مليون حاجة، وهذه الحاجات تنالها بالمال، لابدَّ من أن تكسب المال أولاً من أجل أن تشتري بيتاً، وأن تؤثث البيت، وأن تتزوج امرأةً، وأن تنجب أطفالاً، وأن تربي الأطفال، وأن تعلمهم، إلى آخره، أنت بحاجة لألف مليون حاجة وتتقن حاجةً واحدة، فالله عزَّ وجل قهرنا على أن نكون في مجتمع، وقهرنا على أن نعمل، والدليل: من طبيعة الأنبياء البشرية أنهم كانوا يأكلون الطعام، أي لا يستطيعون أن تقوم أجسامهم بذواتهم، هم مفتقرون إلى وجودهم، وإلى استمرار وجودهم إلى الطعام، ثم إنهم مفتقرون إلى شيءٍ آخر من أجل تأمين ثمن الطعام هم مُفتقرون إلى العمل والكسب، إذاً:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)﴾
الإنسان مقهورٌ باستمرار حياته إلى الطعام والشراب، ثم إنه مقهورٌ في تأمين ثمن الطعام والشراب إلى العمل، فربنا عزَّ وجل أراد لنا أن نكون في مجتمع، وقهرنا إلى أن نعمل، ومن خلال هذا العمل نُكْتَشَف:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾
الإنسان يُكتشف من خلال عمله؛ يصدق أو يكذب، يستقيم أو ينحرف، يكون واضحاً أو غامضاً، يغشُّ المسلمين أو ينصحهم من خلال عمله، فأنت لأنك مقهورٌ على أن تكون في مجتمع، ومقهورٌ على أن تعمل تُكشَف، إذاً الحياة الدنيا ابتلاء، أي إظهار ما تنطوي عليه النفس.
فالنظام الذي أراده الله لهذا الإنسان هو أن يعمل، وبالتالي يكسب المال ويُنفقه في حاجاته الأساسية، فيرقى عند الله عزَّ وجل، وإذا كان حُبّ المال شهوةً عارمةً من شهوات الإنسان، ما أودع الله هذه الشهوات في الإنسان إلا لنرقى بها صابرين وشاكرين.
بالمناسبة أية شهوة أودعها الله فينا يمكن أن نرقى بها مرَّتين: مرةً شاكرين، ومرةً صابرين، فإذا تعففت عن مالٍ حرام ترقى إلى الله صابراً، وإذا أقبلت على مالٍ حلال ترقى إلى الله شاكراً، فكأن هذه الشهوات سُلَّمٌ نرقى به، أو دركاتٌ نهوي بها، فالعمل أساسي في حياة الإنسان؛ من خلاله نُبتلى، تُكشف كمالنا، أو تُكشف نقائصنا.
الآن العمل يملأ فراغ الإنسان، العمل يُحقق وجوده، العمل يجعله مُتَأَلِّقاً، لأن هناك شيئاً بالحياة اسمه: تأكيد الذات، أما حينما يقبع في بيته، ويضع أمواله في المصارف الربوية، ويتقاضى عليها أرباحاً طائلةً يعيش في بحبوحة دون أن يخشى كساداً، أو أن يخشى جفافاً، المزارع يزرع ويقول: يا رب أغثنا، والتاجر يشتري البضاعة ويقول: يا رب اجبرها، أما المرابي فربحه ثابت، ليس له علاقة لا بالمطر ولا بالأسواق، فالمرابي لأنه رفض أن يعمل، وأراد للمال أن يَلِد المال فقد بَعُد عن الله عزَّ وجل، وحينما الإنسان يسلك طريق الربا ما الذي يحصل؟
الربا أولاً يرفع الأسعار، ونحن أمام شيء دقيق جداً، يوجد شكل بالهندســة اســمه الموشور، أي أسطوانة متناقصة إلى أن تصل إلى نقطة، هذا الموشور، وكأن الموشور حلقات متناقصة، الآن عمود هذا الموشور، الخط المتعامد مع قاعدته يُمثِّل الأسعار، فكلما ارتفع السعر ضاقت الشريحة، الآن فاكهة بالسوق لو كان ثمن الكيلو مئة ليرة، كم إنساناً من مليون إنسان يشتري هذه الفاكهة؟ قد يشتريها عشرة آلاف من مليون، لو كان الكيلو بخمسين صار المشترون خمسين ألفاً، لو كان بخمسة وعشرين صار المشترون مئتي ألف، فكلما ارتفع السعر صَغُرت الشريحة، فقد تجد في حالات التضخم النقدي الحاجات ممتلئة بها الأسواق، ولكن لا أحد يملك ثمنها، الحاجات ممتلئة لكن أسعارها فوق طاقة المستهلك، هذه حالة خطيرة جداً، أن الإنسان لا يملك ثمن حاجاته.
يروي علماء الاقتصاد أن عاملاً من عُمَّال المناجم، طبعاً ترك عمله أو أُغلق المنجم وسُرِّح العمال، فتلوَّى الأب جوعاً هو وأولاده، وفي ليلةٍ شديدة البرد شكا الأولاد البرد الشديد، فقالوا له بسذاجةٍ: يا أبت لماذا ليس عندنا فحم وأنت في منجم الفحم؟ قال: لأن الفحم كثير، لأنه كثير فأنا بلا فحم، كلمة فيها مغالطة، لأنه كثير لا يوجد مشتر لهذا الفحم، إذاً المنجم أُغلق أبوابه، عندما أغلق أبوابه سُرِّح عماله، لما سَرّح عماله أصابهم البرد الشديد، لماذا أُصيبوا بالبرد الشديد؟ لوفرة الفحم وعدم وجود مَن يشتريه، هذا نموذج من نماذج الربا.
كل شيء موجود المال قليل، المال بأيدٍ قليلة جداً، الغني الكبير يمكن أن يشتري كل شيء، ولا يعنيه شيء، أما الفقير معه مبلغٌ قليل هذا كيف يكفيه طوال الشهر؟ هنا المشكلة، إذاً المعصية التي تقع على شخصٍ واحد ضررها محصورٌ بواحد، أما التي تقع على شخصين فضررها محصورٌ باثنين، أما المعصية التي تُسَبب إرباك مجتمعٍ بأكمله، حينما تضعف القوة الشرائية للمال، وحينما يكون دخل الإنسان أقل من حاجاته بكثير تنشأ أمراض، تنشأ دور بغاء، طرق الزواج مغلقة، تنشأ جرائم؛ سرقات، ونهب، واحتيال، فهذه جرائم سرقة المال والزنا تتفاقم في المجتمعات الفقيرة، طبعاً وفي المجتمعات الكافرة لها تفسير آخر، أما في المجتمعات ذات البنية السليمة إذا افتقرت يظهر في هذه المجتمعات انحرافاتٍ خطرة.
1 ـ أول أضرار الربا أنه يرفع الأسعار:
أول شيء للربا أنه يرفع الأسعار، كيف؟ الفكرة أن إنساناً معه مئة مليون، إن أراد أن يضعها في عملٍ تجاريٍ، أو صناعيٍ، أو زراعي، إذا كان هناك مؤسسات ربوية يمكن أن تعطيه أرباحاً جيدةً دون أن يعمل فمتى يُغامر ويوظِّفها في مشروعٍ زراعي أو صناعي أو تجاري؟ إذا لم يكن هناك عائد ربح أربعين أو خمسين بالمئة لا يغامر، لأن العشرة بالمئة مُؤَمنة عن طريق البنوك وأحياناً النسب تصل إلى ثمانية عشرة بالعشرة، مادام هناك مؤسسات تعطي ربحاً من دون عمل فرأس المال لا يُغامر بمنطق الحياة إلا إذا كان الربح كبيراً جداً، إذاً بوجود مؤسسة تعطي ربحاً بلا عمل الأموال لا تُوَظف في أعمال استراتيجية إلا بربح عالٍ، فلوجود الربا ترتفع الأسعار، هذه أول حالة.
2 ـ إذا ارتفعت الأسعار ضاقت شريحة المستهلكين:
الأسعار إذا ارتفعت ضاقت شريحة المستهلكين، هذا الشيء الثاني، إذا ارتفعت الأسعار ضاقت الشريحة، فإذا ضاقت الشريحة قلَّ الربح على الباعة، رفعوها ثانيةً، إذا الإنسان يحتاج في اليوم لألف ليرة فرضاً، إذا كان سيربح باليوم مئة ليرة لا تكفيه، فلابدّ من رفع أسعاره، فإذا ارتفعت ضاقت الشريحة، رفع أكثر صرنا في حلقةٍ مفرغةٍ، فكل شيءٍ موجود وأسعار هذه الأشياء فوق طاقة المستهلكين، قضية خطيرة جداً، إذاً الربا يُسهم في رفع الأسعار عن طريق أن رأس المال لا يُغامر إلا بعائد ربحي كبير جداً، ولأن وجود مَن يدفع لك ربحاً دون أن تعمل، هذا يجعل المغامرة تحتاج إلى عائد ربحي عال جداً.
3 ـ الربا يسهم في البطالة:
الشيء الثالث: الربا يُسهم في البطالة، لأن أي إنسان يريد أن يعمل مشروعاً يحتاج إلى طاقة بشرية، الآن المشكلة الأولى في العالم البطالة، في بعض البلاد كل أربعة أشخاص واحد يعمل وثلاثة بلا عمل، وعندنا بطالة مُقنَّعة هذه أخطر، له عمل لكن دخله قليل جداً جِداً لا يكفيه لحياته ومصروفه، إذاً يلجأ إلى أساليب أخرى لا ترضي الله ولا ترضي عبيد الله، فعندنا بطالة صارخة، بطالة مقنَّعة، فحينما يحلُّ كسب المال عن طريق المال نفسه محل كسب المال عن طريق الأعمال، ترتفع الأسعار وتفشو البطالة، والإنسان حينما لا يعمل، طبعاً هذه الأمة تحتاج إلى أن تستورد كل بضاعتها، أمةٌ تأكل ما لا تزرع، وتلبس ما لا تنسج، وتستخدم آلةً لا تصنعها هذه أمةٌ عالةٌ على الأمم.
4 ـ الربا يسهم في ضعف الأمة:
بالمناسبة، سيدنا عمر رضي الله عنه كان يتفقَّد رعيَّته، دخل بلدةً -هكذا تروي الكتب-كل الفعاليات في هذه البلدة من غير المسلمين، فعنَّفهم تعنيفاً شديداً وقال: ما هذا؟! قالوا: لقد سخَّرهم الله لنا، فقال رضي الله عنه: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم؟! أي المنتج قوي والمستهلك ضعيف، فنحن إذا قَبِلْنا أن نضع الأموال في مؤسسات ربوية دون أن نعمل نحتاج إلى أن نستورد كل شيء، والمستورد ضعيف والمُنتِج قوي.
الآن فيما يُسمى بحروب اقتصادية غير معلنة، منها حرب قطع الغيار، عندك مركبة شراء قطع التبديل التابعة لها هذا اسمه: عقد إذعان وليس عقد تراضٍ، مركبة ثمنها مليونان، احتجت إلى قطعة من قطعها لو قال لك: خمسون ألفاً، لو رفضت تتوقف هذه المركبة، فماذا يفعل معنا اقتصاديو العالم؟ يبيعونك شيئاً أساسياً، وأنت محتاجٌ لهم كل وقت لقطع الغيار، فكل إنسان يُثَمِّر ماله في البنوك ولا يعمل هذا يُسْهِم في ضعف أمَّته ويُسْهم في تأخُّرها وتخلُّفها.
أحياناً تحتاج أمة إلى شيء، إلى صناعة معينة، إلى أدوات معينة، قد تدفع ثمنها عشرة أضعاف قيمتها الحقيقي بعقد إذعان، لو الأموال الموجودة في البلاد توجَّهت إلى التوظيف في أعمال أساسية لاستغنينا عن استيراد هذه البضائع، أولاً يُسهم الربا في رفع الأسعار، ورفع الأسعار يُسهم في مشكلات اجتماعية كبيرة جداً، والربا يُسهم في البطالة، والبطالة لها مضاعفات خطيرة جداً، ثم إن الربا يُسهم في ضعف الأمة، لأنه لا يوجد إنتاج، هناك استهلاك فقط من دون إنتاج.
ما من معصيةٍ على الإطلاق توعَّد الله مرتكبيها بحرب إلا الربا:
لذلك لأن الربا يمسُّ أخطر ما في حياة الإنسان وهو المال، وهو قوام الحياة، لذلك ما من معصيةٍ على الإطلاق توعَّد الله مرتكبيها بحرب إلا الربا: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ لذلك: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ الربا بالقوانين الحسابية هو الذي يُرْبِح، أنت أقرضت مئة ألف رجعت لك مئة وعشرين بالآلة الحاسبة المال نما، واسم الربا من النمو، ربا الشيء علا، فأنت في الأصل حينما تُوَظِّف المال في مؤسسة ربوية المال يزداد، وحينما تُقْرِض قرضاً حسناً المال ينْقص، عاد المال مع فرق التضخُّم، أي إذا أقرضت مئة ألف سوف تعود لك بعد عام خمسة وثمانين ألفاً بقيمتها الشرائية، إذاً بحسب الحسابات والآلات الحاسبة الربا يزداد، الربا يزيد المال، والصدقة الخالصة تُنْقِصه، الآية بالعكس، نصدق الآلة الحاسبة أم القرآن الكريم؟ قال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ أي الله عزَّ وجل له قوانين واضحة، وله قوانين ليست واضحة، أنت ضع مئة فوق مئة صار المبلغ مئتين، مئة ثالثة صار المبلغ ثلاثمئة، مئة رابعة أربعمئة، قوانين واضحة، جمع، أقرضت مئة ألف رجعوا مئة وعشرين، أقرضت المئة والعشرين رجعوا مئة وخمسين، أقرضت مئة وخمسين رجعوا مئتين، خلال سنة صارت المئة مئتين، أما القوانين غير الواضحة؛ قوانين العناية الإلهية، أو قوانين التأديب الإلهي.
إذا اتقى الإنسان الله تعالى نما ماله بالعناية الإلهية المباشرة والعكس صحيح:
قد يُتلِف الله للإنسان محصولاً:
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)﴾
هناك صقيع يستمر ثماني ثوان يُتلف محصولاً بالملايين، موجة صقيع تُتْلف كل شيء، فربنا عزَّ وجل قادر أن يتلف مال الإنسان لأتفه الأسباب، يُتلف المال، فالإنسان إذا اتقى الله عزَّ وجل نما ماله بالعناية الإلهية المباشرة، وإذا لم يتقيَّد بهذا الأمر تَلِف ماله بالتأديب الإلهي، كم من إنسان دُمِّرت تجارته بخطأ بسيط؟! كم من إنسانٍ أعلن إفلاسه لسببٍ قليل؟! سببٍ تافه؟! ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ .
قد يبدو للإنسان أن الربا يزيد المال، وقد يتبدى للإنسان أن القرض الحَسَن يُنقص المال، هذا بالقوانين الأرضية أما الله عزَّ وجل له منظومة قوانين أخرى.
دائماً يوجد نقطة دقيقة، هناك قوانين مستنبطة من حركة الحياة، أي إنسان فرضاً عرضت عليه تجارة ربحها بالمئة خمسمئة، والرأسمال موجود، والشاري موجود، فيساهم، فبالقوانين الأرضية أرباح طائلة، هذا المال قد يُدمَّر، قد يُصادر، قد يُحرق، هناك آلاف الطرق لإتلاف المال، وقد يتقيَّد بشرع الله فلا يربح فيأتيه ربحٌ من نوع آخر ليس في الحسبان:
﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)﴾
ولو أن القوانين الحسابية، ولو أن قوانين الرياضيات تجعل الربا يزيد المال إلا أن قوانين ربنا عزَّ وجل التي توعَّدنا بها تُتْلِف هذا المال الحرام.
أن تلد الأعمال المال بالبيع والشراء هذا أقرَّه الله تعالى:
على كلٍّ أيها الإخوة، هذه الآيات آيات الربا مهمةٌ جداً، وإن شاء الله تعالى هناك وقفةٌ متأنيةٌ عندها في درسٍ قادم، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ أي أن تَلِد الأعمال المال هو البيع والشراء، هذا أقرَّه الله، أما أن يَلِد المال المَال فهو الربا.
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾
يا أيها الإخوة الكرام؛ هذا كلام الرحمن، هذا كلام خالق الأكوان، لو بالمنطق السطحي، وبالقوانين المستنبطة من حركة الحياة توهَّمت أن الربا يرفع دخل الإنسان، هو في الحقيقة تدميرٌ لهذا المال، والدول التي لا تتعامل بالربا ميزانها التجاري رابحٌ جداً، دولة من دول المسلمين في شرق آسيا كادت تصل إلى نمو مذهل، وصلت إلى ستين مليار فائض، طبعاً فهناك مَن علَّق تعليقاً لطيفاً بسبب بُعْد هذا الاقتصاد عن الأسلوب الربوي، ليس بعداً كلياً أي بعدٌ جيّد جداً، فكلما ابتعدنا عن نظام الربا نمت أموالنا، وصحت أجسامنا، ونمت العلاقات الاجتماعية بيننا.
وفي درسٍ آخر إن شاء الله نقف وقفةً متأنيةً عند هذه الآيات بحسب أحكامها الفقهية.
الملف مدقق