- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (002)سورة البقرة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
المال هو القيمة الوسيطة بين حاجات الإنسان :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس التاسع والثمانين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الخامسة والسبعين بعد المئتين، وهي قوله تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
أيها الأخوة الكرام، الإنسان في بدايته سَلَكَ إلى تأمين حاجاته مبدأ المُقايضة، يعطي قمحاً ويأخذ لحماً، ولكن مبدأ المُقايضة لا يصلح، ولا يمكن أن يستمر عليه الإنسان، فلا بد من قيمةٍ مطلقةٍ وسيطةٍ بين حاجات الإنسان، كان المال هذه القيمة الوسيطة بين حاجات الإنسان.
مثلاً أنا أعالج مريضاً فأتقاضى مالاً، أعلِّم طالباً فأتقاضى أجراً، أريد أن أشتري ثوباً أدفع ثمناً، فهذا الشيء الذي يعبِّر عن جهدي وعن جهد الآخرين هذه القيمة المطلقة هي المال، سواءٌ أكان مالاً ذهبياً، أو فضياً، أم إيصالاً لتغطيةٍ مودعةٍ عند مُصْدِر هذا الإيصال؛ (العملة الورقية)، على كلٍ دون أن ندخل في تفاصيل فلسفة المال، وكيفية نشوء مفهوم المال، هذا المال الذي بين أيدينا تعبيرٌ عن جهدٍ بشري، فمَن بذل جهداً كبيراً ينبغي أن يتقاضى مالاً كثيراً، ومَن بذل جهداً قليلاً ينبغي أن يتقاضى مالاً قليلاً، ومَن أراد أن يشتري حاجةً ثمينةً ينبغي أن يدفع مالاً كثيراً يعبُّر عن جهدٍ كبير بذله.
المال هو قيمة الجُهد البشري :
على كلٍ هذا الورق الذي هو بين أيدينا هو المال، قيمة الجُهد البشري، رمز الجهد البشري، وهو مَرِن، حالياً يقدم أحدنا لإنسان حاجة عند زواجه، يقدِّم له ثُريا مثلاً، لو قدمت ثمنها قد يشتري بثمنها عشرات الحاجات، لأن هذه قيمة مطلقة، ومعلوم أنّ أخطر شيءٍ في الحياة المال والمرأة، لأن النفس متعلقةٌ بهما أشدَّ التعلُّق، قال تعالى:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
رُكِّب حب هذا كله في أصل الإنسان، في أصل جبلَّة الإنسان حُبّ المرأة وحب المال، ومحور درسنا هذا: عن المال، المال كما قال بعضهم مادة الشهوات، لا تستطيع أن تفعل شيئاً من دون مال، لا تستطيع أن تشتري طعاماً تأكله من دون مال، لا تستطيع أن تسكن في بيتٍ مريح من دون مال، لا تستطيع أن تركب مركبةً تنقلك إلى أهدافك من دون مال، لا تستطيع أن تُهيمِن على الناس من دون مال، فالمال له دورٌ خطير في حياة الإنسان، بل إن الله جعله قِوام الحياة.
حالياً مثلاً: إنسان له دخل فيشتري منزلاً صغيراً، يخطب فتاة، يتزوج، يؤسس أسرة، يصير له كيان، من أين بدأ هذا الكيان؟ من دخلٍ ثابت، استطاع أن يخطب من خلاله امرأةً، وأن يشتري منزلاً، وأن ينفق على نفسه وعليها، لأن للمال دوراً خطيراً في حياة الإنسان فلا بد من تنظيم علاقته به.
هناك طريقتان لكسب المال إما أن تلد الأعمال المال وإما أن يلد المالُ المال :
أيها الأخوة الكرام، كلامٌ دقيق، هناك طريقتان لكسب المال؛ إما أن تلد الأعمال المال، وإما أن يلد المالُ المال، إذا وَلَدَت الأعمال المال فهذا الذي أراده الله عزَّ وجل، وهذا الذي شَرَّعه، وهذا الذي يجعل المال دولةً بين الناس جميعاً، ما الذي يجعل المال دُولةً بين الناس جميعاً، أي متداولاً بين الناس جميعاً؟ حينما تلد الأعمال المال، قد لا أقف عند دقائق هذه الآية في هذا الدرس، لكن لا بد من تمهيدٍ دقيقٍ جداً لِموضوع آيات الربا.
أنت إن فتحت محلاً تجارياً، تحتاج إلى موظف يعينك على فتح المحل صباحاً ويبقى فيه طول الوقت، هذا الموظف لا بد له من مرتَّب، هذا المُرَتَّب يتقاضاه من هذه الشركة، أنت بحاجة إلى محاسب، بحاجة إلى مستودع، بحاجة إلى دفاتر فواتير، بحاجة إلى صاحب مطبعة، دون أن تشعر توظف عشرات، بل مئات الجهات كوظيفة ليست ثابتة، حينما تستأجر مستودعاً تحتاج إلى مَن يقيم في المستودع، تحتاج إلى مَن يُنظِّم لك هذا المستودع، فالأعمال إذا ولدت المال، هذه الكتلة النقدية التي بأيدي صاحب هذا المشروع لا بد من أن تتوزَّع بين أُناسٍ كثيرين، وكل الشركات لها مصاريف، والمصاريف قد تصل إلى الثُلث أحياناً، أي ثلث رأس المال وزِّع بين الناس.
فالله عزَّ وجل حينما شرَّع لنا هذا الشرع العظيم أراد من هذا المال أن يكون متداولاً بين جميع الخَلْق، والوضع الاجتماعي الصحي، الوضع الطيِّب المريح، العدل، الوضع الرحيم الحكيم أن يكون المالُ متداولاً بين جميع الخلق، أما الوضع المَرَضيّ أن يكون المال متداولاً بين الأغنياء فقط، قال تعالى:
﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ ﴾
متى يكون المال متداولاً بين الأغنياء فقط؟ حينما يلدُ المال المال، أما إذا ولدت الأعمال المال يوزَّع بين أناسٍ كثيرين، لكن إذا ولد المال المال، أي أنك وأنت قابع في البيت مرتاحاً لا تستأجر محلاً، ولا تتحمل مسؤولية، ولا تدفع ضريبة، ولا تستخدم أناساً، ولا تُشَغِّل ـ إن صح التعبير ـ أصحاب مِهَن وحِرَف، أنت حينما تضع هذا المال في مؤسسة ربوية وتتقاضى عليه أرباحاً، وأنت قابع في البيت مرتاحاً لا تقدم للأمة شيئاً، بل تأخذ مالاً فائدة لمالِك، فهذه العملية من شأنها أن تُجَمِّع الأموال في أيدٍ قليلة، وأن تحرم منها الكثرة الكثيرة عندئذٍ يكون التفاوت الطبقي الذي هو وراء كل ثورات العالم، واحد يملك مليوناً، ومليون لا يملكون واحداً، إنسان يقيم عقد قِران في فندق يكلفه خمسة وثمانين مليون، وخمسة وثمانون ألف شاب لا يجدون ليرةً واحدة يتزوَّجون بها.
حينما تلد الأموال المال تتجمع الأموال في أيدٍ قليلة وتحرم منها الأيدي الكثيرة :
حينما تلد الأموال المال تتجمع الأموال في أيدٍ قليلة وتحرم منها الأيدي الكثيرة، وهذا التفاوت الكبير بين شخصٍ وشخص وراء كل الفسادٍ الأخلاقي والفساد الاجتماعي، بل وراء العُنف، بل وراء ما يسمى الآن بالإرهاب، إنسان يائس لا يستطيع أن يملك شيئاً، يريد أن يأكل فيسلك سبيل العنف والقتل.
لهذا، المعصية أيها الأخوة تتعاظم كلما اتسعت رقعة مضارِّها، فالذي يشرب الخمرة مثلاً يؤذي نفسه، أما الذي يزني يؤذي نفسه ويؤذي امرأةً معه، أما الذي يرابي يؤذي مجتمعاً بأكمله، لأن المال قِوام الحياة، فإذا ملكته أيدٍ قليلة وحُرمت منه الكثرة الكثيرة صار هناك اختلال، خلل خطير في الحياة.
لذلك الإنسان جاء في الحياة الدنيا من أجل عملٍ صالح، يأخذ ويعطي، ينفع وينتفع.. بالمناسبة الأنبياء أعطوا كل شيء ولم يأخذوا شيئاً... يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ.. يا من قدست الوجود كله ورعيت قضية الإنسان.. يا مَن زكيت سيادة العقل ونهنهت غريزة القطيع.. يا مَن هيَّأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع فعشت واحداً بين الجميع.. جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، هؤلاء هم الأنبياء.
المرابي أخذ ولم يعطِ، ما فعل شيئاً، لو كان يملك ألف مليون هو عالة على المجتمع، النجَّار قدَّم باباً، المدرس علَّم طالباً، الطبيب عالج مريضاً، المحامي أخذ حقاً ضائعاً، التاجر قدَّم سلعةً إلى مكانٍ مناسب وربح ربحاً مناسباً، المُزارع قدَّم محصولاً، ما من إنسان عمل عملاً إلا وقدم شيئاً، ولو أنه ربح. هنا نقطة دقيقة جداً، إنسان استصلح أرضاً وزرعها تفاحاً مثلاً، هو يقصد الربح، ولكن ماذا فعل؟ لقد قدم كمية تفاح كبيرة في موسم التفاح فساهم في خفض أسعاره، وساهم بإطعام هؤلاء الجياع. التاجر استورد بضاعةً وباعها، والقصد هو الربح، لكن ماذا فعل؟ جعل بضاعةً أساسيةً بين أيدي الناس بسعرٍ معقول، إذاً كل إنسان يعمل عرف أو لم يعرف، شعر أو لم يشعر يقدم خدمةً للمجتمع. لذلك سيدنا عمر كان يقول: " إني أرى الرجل ليس له عمل فيسقط من عيني ".
﴿ وَقُلْ اعْمَلُوا﴾
فنحن في الحياة الدنيا ينبغي أن نعمل، من جهة أننا بهذا العمل تكتشف خصائصنا والكمالات التي أودعها الله فينا، أو تكتشف نقائصنا والانحرافات التي كسبناها بأيدينا، فالإنسان من دون عمل لا يكتشف.
الله عزَّ وجل قهر الإنسان بالعمل :
الله عزَّ وجل قهرنا بالعمل، كيف؟ كل واحد منا يتقن حاجة واحدة وهو محتاجٌ لألف مليون حاجة، وهذه الحاجات تنالها بالمال، فلا بدَّ من أن تكسب المال أولاً من أجل أن تشتري بيتاً، وأن تؤثث البيت، وأن تتزوج امرأةً، وأن تنجب أطفالاً، وأن تربي الأطفال، وأن تعلمهم.. الخ، أنت بحاجة لألف مليون حاجة بينما تتقن حاجةً واحدة، فالله عزَّ وجل قهرنا على أن نكون في مجتمع، وقهرنا على أن نعمل، والدليل: من طبيعة الأنبياء البشرية أنهم كانوا يأكلون الطعام، أي لا يستطيعون أن تقوم أجسامهم بذواتهم، هم مفتقرون إلى وجودهم، وإلى استمرار وجودهم إلى الطعام، ثم إنهم مفتقرون إلى شيءٍ آخر من أجل تأمين ثمن الطعام فهم مفتقرون إلى العمل والكسب، إذاً:
﴿ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ ﴾
الإنسان مقهورٌ باستمرار حياته إلى الطعام والشراب، ثم إنه مقهورٌ في تأمين ثمن الطعام والشراب إلى العمل، فربنا عزَّ وجل أراد لنا أن نكون في مجتمع، وقهرنا بحاجة إلى أن نعمل، ومن خلال هذا العمل نُكْتَشَف:
﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
الإنسان يُكتشف من خلال عمله؛ أنه يصدق أو يكذب، يستقيم أو ينحرف، يكون واضحاً أو غامضاً، يغش المسلمين أو ينصحهم من خلال عمله، فأنت لأنك مقهورٌ على أن تكون في مجتمع، ومقهورٌ على أن تعمل فتُكْتشَف، إذاً الحياة الدنيا ابتلاء، أي إظهار ما تنطوي عليه النفس.
فالنظام الذي أراده الله لهذا الإنسان هو أن يعمل، وبالتالي يكسب المال وينفقه في حاجاته الأساسية، فيرقى عند الله عزَّ وجل، وإذا كان حُب المال شهوةً عارمةً من شهوات الإنسان، فما أودع الله هذه الشهوات في الإنسان إلا لنرقى بها صابرين وشاكرين.
بالمناسبة، أية شهوة أودعها الله فينا يمكن أن نرقى بها مرَّتين: مرةً شاكرين، ومرةً صابرين، فإذا تعففت عن مالٍ حرام ترقى إلى الله صابراً، وإذا أقبلت على مالٍ حلال ترقى إلى الله شاكراً، فكأن هذه الشهوات سُلَّمٌ نرقى به، أو دركاتٌ نهوي بها، فالعمل أساسي في حياة الإنسان؛ من خلاله نبتلى، تكتشف كمالنا، أو تكتشف نقائصنا.
نموذج من نماذج الربا :
وبعد، فإن العمل يملأ فراغ الإنسان، العمل يحقق وجوده، العمل يجعله مُتَأَلِّقاً، لأن له هدفاً بالحياة اسمه تأكيد الذات، أما حينما يقبع في بيته، ويضع أمواله في المصارف الربوية، ويتقاضى عليها أرباحاً طائلةً يعيش في بحبوحة دون أن يخشى كساداً، أو أن يخشى جفافاً، لكن المزارع يزرع ويقول: يا رب أغثنا، والتاجر يشتري البضاعة ويقول: يا رب اجبرها، أما المرابي فربحه ثابت، ليس له علاقة لا بالمطر ولا بالأسواق، فالمرابي لأنه رفض أن يعمل، وأراد للمال أن يلد المال فقد بَعُد عن الله عزَّ وجل، وحينما الإنسان يسلك طريق الربا ما الذي يحصل؟
الربا أولاً يرفع الأسعار، ونحن أمام شيء دقيق جداً، في علم في الهندســة شكل اســمه (الموشور)، فهو اسطوانة متناقصة إلى أن تصل إلى نقطة، هذا الموشور، وكأنه حلقات متناقصة، الآن، عمود هذا الموشور، الخط المتعامد مع قاعدته يمثِّل الأسعار، فكلما ارتفع السعر ضاقت الشريحة، مثلاً، فاكهة بالسوق لو كان ثمن الكيلو مئة ليرة، كم إنساناً من مليون إنسان يشتري هذه الفاكهة؟ قد يشتريها عشرة آلاف من مليون، لو كان الكيلو بخمسين صار المشترون خمسين ألفاً، ولو كان بخمسة وعشرين صار المشترون مئتي ألف، فكلما ارتفع السعر صغرت الشريحة، فقد تجد في حالات التضخم النقدي الحاجات متوافرة في الأسواق، ولكن لا أحد يملك ثمنها، الحاجات كثيرة لكن أسعارها فوق طاقة المستهلك، وهذه حالة خطيرة جداً، لأن الإنسان لا يملك ثمن حاجاته.
يروي علماء الاقتصاد: أن عاملاً من عُمَّال المناجم، ترك عمله بعد أن أُغلق المنجم وسُرِّح العمال، فتلوَّى الأب جوعاً هو وأولاده، وفي ليلةٍ شديدة البرد شكا الأولاد البرد الشديد، فقالوا له بسذاجةٍ: يا أبت لماذا ليس عندنا فحم وأنت تعمل في منجم فحم؟ قال: لأن الفحم كثير، لأنه كثير فأنا بلا فحم. كلمة فيها مغالطة، فهو كثير لأنه ليس هناك من يشتري، لقد كثر الفحم إذاً المنجم أُغلقت أبوابه، وعندما أغلقت أبوابه سُرِّح عماله، وحينما سرح عماله أصابهم البرد الشديد، لماذا أصيبوا بالبرد الشديد؟ لوفرة الفحم وعدم وجود مَن يشتريه، هذا نموذج من نماذج الربا.
أضرار الربا :
كل شيء موجود والمال قليل، المال بأيدٍ قليلة جداً، الغني الكبير يمكن أن يشتري كل شيء، ولا يعنيه شيء، أما الفقير فمعه مبلغٌ قليل، هذا كيف يكفيه طوال الشهر؟ هنا المشكلة، إذاً المعصية التي تقع على شخصٍ واحد ضررها محصورٌ بواحد، أما التي تقع على شخصين ضررها محصورٌ باثنين، أما المعصية التي تسبب إرباك مجتمعٍ بأكمله، تضعف القوة الشرائية للمال، وحينما يكون دخل الإنسان أقل من حاجاته بكثير تنشأ أمراض، تنشأ دور بغاء، لأن طرق الزواج مغلقة، تنشأ جرائم؛ سرقات، ونهب، واحتيال، فهذه الجرائم كسرقة المال والزنا تتفاقم في المجتمعات الفقيرة، طبعاً وفي المجتمعات الكافرة لها تفسير آخر، أما في المجتمعات ذات البنية السليمة إذا افتقرت يظهر في هذه المجتمعات انحرافاتٍ خطرة.
1 ـ أول أضرار الربا أنه يرفع الأسعار :
أول أضرار الربا: أنه يرفع الأسعار، كيف؟ الفكرة أن إنساناً معه مئة مليون، أراد أن يضعها في عملٍ تجاريٍ، أو صناعيٍ، أو زراعي، لكنه رأى أنّ هناك مؤسسات ربوية يمكن أن تعطيه أرباحاً جيدةً دون أن يعمل فيكسل، فمتى يغامر ويوظِّفها في مشروعٍ زراعيٍ، أو صناعيٍ، أو تجاري؟ إذا كان عائد الربح أربعين أو خمسين بالمئة فعندئذ يخوض غمار العمل في تلك المشاريع، لكن إذا كان هناك مؤسسات تعطي ربحاً من دون عمل فرأس المال لا يغامر بمنطق الحياة إلا إذا كان الربح كبيراً جداً، إذاً بوجود مؤسسة تعطي ربحاً بلا عمل فالأموال لا توظف في أعمال استراتيجية إلا بربح عالٍ، فتفشي الربا يرفع الأسعار، وهذه أول أضراره.
2 ـ إذا ارتفعت الأسعار ضاقت شريحة المستهلكين :
الأسعار إذا ارتفعت ضاقت شريحة المستهلكين، أما الضرر الثاني فهو إذا ارتفعت الأسعار ضاقت الشريحة، فإذا ضاقت الشريحة قلَّ الربح عند الباعة، فترتفع الأسعار ثانيةً، إنسان يحتاج في اليوم لألف ليرة فرضاً، إذا كان سيربح باليوم مئة ليرة لا تكفيه، فلا بد من رفع أسعاره، فإذا ارتفعت ضاقت الشريحة، فصرنا في حلقةٍ مفرغةٍ، فكل شيءٍ موجود وأسعار هذه الأشياء فوق طاقة المستهلكين، قضية خطيرة جداً، إذاً الربا يسهم في رفع الأسعار عن طريق أن رأس المال لا يغامر إلا بربحٍ كبير جداً، ولأن وجود مَن يدفع لك ربحاً دون أن تعمل، هذا يحد من المغامرة في مشاريع اقتصادية إلا إذا صار مقدار الأرباح عالياً جداً لدى المشاريع الاقتصادية.
3 ـ الربا يسهم في البطالة :
الضرر الثالث الربا يسهم في البطالة، لأن أي إنسان يريد أن يعمل مشروعاً يحتاج إلى طاقة بشرية، الآن المشكلة الأولى في العالم مشكلة البطالة، في بعض البلاد كل أربعة أشخاص واحد يعمل وثلاثة بلا عمل، عندنا بطالة مُقنَّعة وهذه أخطر، له عمل ولكن دخله قليل جداً جِداً لا يكفيه لحياته ومصروفه، إذاً يلجأ إلى أساليب أخرى لا ترضي الله ولا ترضي عبيد الله، إذاً عندنا بطالة صارخة، بطالة مقنَّعة، فحينما يحلُّ كسب المال عن طريق المال نفسه محل كسب المال عن طريق الأعمال، ترتفع الأسعار وتفشو البطالة، والإنسان حينما لا يعمل، طبعاً هذه الأمة تحتاج إلى أن تستورد كل بضاعتها، فأمةٌ تأكل ما لا تزرع، وتلبس ما لا تنسج، وتستخدم آلةً لا تصنعها هذه أمةٌ عالةٌ على الأمم وانهيارها محقق.
4 ـ الربا يسهم في ضعف الأمة :
بالمناسبة، سيدنا عمر رضي الله عنه، كان يتفقَّد رعيَّته، فدخل بلدةً ـ هكذا تروي الكتب ـ فوجد أنّ كل الفعاليات في هذه البلدة من غير المسلمين، فعنَّفهم تعنيفاً شديداً وقال: ما هذا؟! قالوا: لقد سخَّرهم الله لنا. فقال رضي الله عنه: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم؟! أي أن المنتج قوي والمستهلك ضعيف، فنحن إذا قبلنا أن نضع الأموال في مؤسسات ربوية دون أن نعمل، نحتاج إلى أن نستورد كل شيء، والمستورد ضعيف والمنتج قوي.
حالياً هناك ما يسمى بحروب اقتصادية غير معلنة، منها حرب قطع الغيار، عندك مركبة شراء قطع التبديل التابعة لها ـ هذا اسمه عقد إذعان وليس عقد تراضٍ ـ مركبة ثمنها مليونان، احتجت إلى قطعة تبديلية لها وقال لك البائع: بخمسين ألفاً، فلو رفضت تتوقف هذه المركبة، فماذا يفعل معنا اقتصاديو العالم؟ يبيعونك شيئاً أساسياً، وأنت محتاجٌ لهم كل وقت لقطع الغيار، فحينما لا نكتفي بطعامنا، وشرابنا، وثيابنا، وحاجاتنا، وآلاتنا، نكون أفقر الشعوب، فكل إنسان يُثَمِّر ماله في البنوك ولا ينشئ بهذا المال المشاريع الاقتصادية، فهذا يسهم في إضعاف أمَّته ويسهم في تأخُّرها وتخلُّفها بل وانهيارها.
أحياناً تحتاج أمة إلى صناعة معينة، إلى أدوات معينة، قد تدفع ثمنها عشرة أضعاف ثمنها الحقيقي بعقد إذعان، ولو أن الأموال الموجودة في البلاد توجَّهت إلى التوظيف في أعمال أساسية لاستغنينا عن استيراد هذه البضائع، فأولاً يسهم الربا في رفع الأسعار، ورفع الأسعار يسهم في خلق مشكلات اجتماعية كبيرة جداً، والربا يسهم في البطالة، والبطالة لها مضاعفات خطيرة جداً، ثم إن الربا يسهم في ضعف الأمة، لأنه ليس في البلاد إنتاج، بل هناك استهلاك فقط من دون إنتاج.
ما من معصيةٍ على الإطلاق توعَّد الله مرتكبيها بحرب إلا الربا :
لذلك فإن الربا يمسُّ أخطر ما في حياة الإنسان وهو تعطيل حركة المال، وهو قوام الحياة، لذلك ما من معصيةٍ على الإطلاق توعَّد الله مرتكبيها بحرب إلا الربا:
﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾
لذلك:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾
الربا بالقوانين الحسابية هو الذي يُرْبِح، أنت أقرضت مئة ألف رجعت لك مئة وعشرين بالآلة الحاسبة المال نما، واسم الربا من النمو، ربا الشيء علا، فأنت في الأصل حينما توظِّف المال في مؤسسة ربوية فالمال يزداد، وحينما تُقْرِض قرضاً حسناً المال ينْقص، عاد المال مع فرق التضخُّم، فإذا أقرضت مئة ألف سوف تعود لك بعد عام خمسةٌ وثمانين ألفاً بحسب قيمتها الشرائية، إذاً بحسب الحسابات والآلات الحاسبة الربا يزداد، الربا يزيد المال، والصدقة الخالصة تنفقه، لكن آيات القرآن الكريم تكذبه و تُعكسه، فهل نصدق الآلة الحاسبة أم القرآن الكريم؟ قال تعالى:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾
فالله عزَّ وجل له قوانين واضحة، وله قوانين ليست واضحة، أنت ضع مئة فوق مئة صار المبلغ مئتين، مئة ثالثة صار المبلغ ثلاثمئة، مئة رابعة أربعمئة، قوانين واضحة، عملية جمع، أقرضت مئة ألف رجعت مئة وعشرين، أقرضت المئة و العشرين رجعت مئة وخمسين، أقرضت مئة وخمسين رجعت مئتين، خلال سنة صارت المئة مئتين، أما القوانين غير الواضحة؛ قوانين العناية الإلهية، أو قوانين التأديب الإلهي.
إذا اتقى الإنسان الله تعالى نما ماله بالعناية الإلهية المباشرة والعكس صحيح :
قد يتلف الله للإنسان محصولاً:
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ*فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِِ ﴾
أو يصيب المحصول صقيع يستمر عدة ثوان يتلف محصولاً بالملايين، موجة صقيع تتلف كل شيء. فربنا عزَّ وجل قادر أن يتلف مال الإنسان لأتفه الأسباب، فالإنسان إذا اتقى الله عزَّ وجل نما ماله بالعناية الإلهية المباشرة، وإذا لم يتقيَّد بهذا الأمر تلف ماله بالتأديب الإلهي، فكم من إنسان دمِّرت تجارته بخطأ بسيط، كم من إنسانٍ أعلن إفلاسه لسببٍ ضئيل، سببٍ تافه، (يمحق الله الربا)، قد يبدو للإنسان أن الربا يزيد المال، وقد يتبدى للإنسان أن القرض الحَسَن ينقص المال، هذا بالقوانين الأرضية لكن الله عزَّ وجل له منظومة قوانين أخرى.
دائماً لدينا نقطة دقيقة، فهناك قوانين مستنبطة من حركة الحياة، أي إنسان فرضاً عرضت عليه تجارة ربحها بالمئة خمسمئة، ورأس المال موجود، والشاري موجود، فيساهم، فبالقوانين الأرضية أرباح طائلة، لكن هذا المال قد يُدمَّر، قد يُصادر، قد يحرق، هناك آلاف الطرق لإتلاف المال، وقد يتقيَّد بشرع الله فلا يربح مبدئياً، ثم يأتيه ربحٌ من طريق آخر أو نوع آخر ليس في الحسبان:
﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ﴾
ولو أن القوانين الحسابية، ولو أن قوانين الرياضيات تجعل الربا يزيد المال إلا أن قوانين ربنا عزَّ وجل التي توعَّدنا بها تُتْلِف هذا المال الحرام. و الله غالب على أمره.
أن تلد الأعمال المال بالبيع والشراء هذا أقرَّه الله تعالى :
على كلٍّ أيها الأخوة، هذه الآيات ـ آيات الربا ـ مهمةٌ جداً، وإن شاء الله تعالى هناك وقفةٌ متأنيةٌ عندها في درسٍ قادم، قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾
أي أن تلد الأعمال المال بالبيع والشراء، هذا أقرَّه الله، أما أن يلد المال المَال فهو الربا..
﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ* يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾
يا أيها الأخوة الكرام، هذا كلام الرحمن، هذا كلام خالق الأكوان، ولو أنك بالمنطق السطحي، وبالقوانين المستنبطة من حركة الحياة توهَّمت أن الربا يرفع دخل الإنسان، لكنه في الحقيقة تدميرٌ لهذا المال، فالدول التي لا تتعامل بالربا ميزانها التجاري رابحٌ جداً، دولة من دول المسلمين في شرق آسيا كادت تصل إلى نمو مذهل، وصلت إلى ستين مليار فائض، طبعاً هناك مَن علَّق تعليقاً لطيفاً أن نموه بسبب بُعْد هذا الاقتصاد عن الأسلوب الربوي، وليس البعد بعداً كلياً لكنّه بعدٌ جيّد جداً، فكلما ابتعدنا عن نظام الربا نمت أموالنا، وصحت أجسامنا، ونمت العلاقات الاجتماعية بيننا سليمة.
وفي درسٍ آخر إن شاء الله نقف وقفةً متأنيةً عند هذه الآيات بحسب أحكامها الفقهية.